بقي الكلام في معنى حديث « السعيد ، سعيد في بطن اُمّه ، والشقي ، شقي في بطن اُمّه»([1]) :
فنقول : إنّ السعادة والشقاوة ليستا من الاُمور الذاتيّة ـ لا من الذاتي في باب (إيساغوجي) ; ضرورة أنّهما ليستا بجنسين أو فصلين للإنسان ـ ولا من الذاتي([2])في باب البرهان من قبيل الزوجيّة للأربعة ، بداهة أنّهما أمران ينتزعان من الإطاعة والمعصية المترتّبتين على العمل بما أمربه المولى أوبخلافه عن إرادة وشعور ، ولا يصحّ إطلاقهما على من لم يعمل عن إرادة وشعور ، فكيف بمن كان في بطن اُمّه ؟ ! فلابدّ من العناية في الحمل ، وأن يكون باعتبار وجود المقتضي للسعادة من الصفات الحسنة التي هي جنود الإله ، ووجود المقتضي للشقاوة من الصفات الرذيلة الخبيثة التي هي جنود الشيطان والنفس الأمّارة ، سواء قلنا بالجبر أو التفويض أو الأمر بين الأمرين ، وهذا كإطلاق النار على الحطب ، لما فيه من اقتضاء النارية ، فالرواية لا تدلّ على الجبر بوجه من الوجوه([3]) .
]ثمّ إن[ قلنا بثبوت عالم الذر وخلق الأرواح بأجمعها في ذلك العالم وتكليفهم بالإيمان ـ كما هو مقتضى جملة من الأخبار ـ فعليه لا إشكال في مفاد الرواية لحصولهما له بالاكتساب والاختيار في ذاك العالم .
وإن لم نقل به ، فإمّا أن يراد من السعادة والشقاوة أسبابهما القريبة من الصفات والملكات ونحو ذلك ، أو يراد منهما كتابتهما في لوح المحو والإثبات أو المحفوظ بحسب علمه تعالى ، بأنّ العبد يختار السعادة أو يختار الشقاوة ، وقد ورد في بعض الأدعية طلب محو الاسم من ديوان الأشقياء وإثباته في ديوان السعداء ، وفي بعض الأخبار أنّ السعيد ربّما يدخل في الأشقياء بحيث يتخيّله منهم كلّ من يراه ، ولكن ينقلب إلى السعادة ولو في آخر عمره ، وفي بعضها ينقلب في أقل من زمان الفواق وما يمكث الحالب من الحلب بين الحلبتين .
وبالجملة ، لاينافي شيء من هذه الأخبار مع الأمر بين الأمرين أصلاً([4]) .
وأمّا حديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة» فأجنبي عن المقام جدّاً ; فإنّ الظاهر منه ـ والله العالم ـ أنَّ الناس مختلفون في القوّة الظاهرة والباطنة والعقل اختلافاً شديداً ، وهذا ممّا يختصّ بالإنسان ; إذ غيره لا يختلف في نوع واحد منه أصلاً ، أو ليس بهذه الكثرة والشدّة ، كاختلاف معادن الذهب والفضّة([5]) .
]وبعبارة أوضح :[ ما ورد في الأخبار من أنّ « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » فلا ينافي ما اخترناه من الأمر بين الأمرين ، فإنّ المراد منه الصفات والملكات النفسانيّة ، وكما تختلف القوى الجسمانية في الأشخاص من الباصرة والسامعة ونحو ذلك ، فترى إنساناً لا يقدر على حمل منّ([6]) وإنساناً آخر يقدر على حمل وزنة([7]) أو أكثر ، وقد سمعنا بمن كان قادراً على حمل عشرين وزنة ، كذلك يختلف الأشخاص من حيث المحامد والرذائل النفسية ، فنرى إنساناً يكون في ذاته كريماً أوسخيّاً أو شجاعاً ونرى الآخر بخيلاً لئيماً ، وربّما تتبدّل تلك الصفات بالرياضات .
فقد يكون الإنسان قريباً من الطاعات والخيرات ، وترى الآخر قريباً من المعاصي من غير اختياره ، مثلاً يكون أحد الناس ابن عالم عادل ويُربّى في بيت العبادة ويكون الآخر ابن فاسق ويُربّى في بيت لا يرى فيه إلاّ المعصية وأنحاء الفسوق ، فبحسب طبعه يميل الأول إلى الطاعة ويأنس بها ، والثاني إلى المعاصي ويأنس بها ، ولكن كلّ ذلك لاينافي الاختيار في الأفعال ولا يستلزم الجبر .
وبالجملة ، نحن لم ندّع كون الأفعال بجميع مباديها اختياريّة ، ولم ننكر كون أغلب مبادئ الفعل خارجة عن تحت اختيار المكلّف ، وكيف يمكننا ذلك مع ما نشاهده من خلافه وجداناً ، ولكن نريد أن ندّعي أنّ ذلك لاينافي الاختيار ، فمن تهيّأ له مجموع مقدّمات الطاعة يكون متمكّناً من المعصية والطاعة ، وهكذا العكس ، فتهيئة أسباب الخير أو الشرّ لا يسلب اختيار العبد ، وهذا واضح جدّاً .
وكيف كان ، فالرواية تشير إلى الصفات والملكات التي يناسب بعضها الطاعة وبعضها العصيان([8]) .
السادس : أنّ شيخنا المحقّق(قدس سره) قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين :
الأول : أنّ العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي ، بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ، ونتائج الملكات الرذيلة وآثار الملكات الفاضلة ، ومَثَل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه ، والمرض الروحاني كالمرض الجسماني ، والأدوية العقلانية كالأدوية الجسمانيّة ، ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانيّة والروحانيّة في تلك النشأة ـ أي النشأة الاُخرويّة ـ كما أنّها تستلزم ]ذلك[ في هذه النشأة الدنيويّة ; ضرورة أنّ تصوّر المنافرات كما يوجب الآلام النفسانيّة كذلك يوجب الآلام الجسمانيّة ، فإذن لامانع من حدوث منافرات روحانيّة وجسمانيّة بواسطة الملكات الخبيثة النفسانيّة .
فالنتيجة أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يقال : كيف يمكن صدور العقاب من الحكيم المختار على ما لا يكون بالآخرة بالاختيار ، وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك ، فقد تكرّر في القرآن الكريم ]قوله تعالى[ : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)([9]) ، وقوله(عليه السلام) : «إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم»([10]) .
الثاني : أنّ المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دلّ على ذلك ظاهر الكتاب والسنّة ، وتصحيحهما بعد صحّة التكليف بذلك المقدار من الإختيار في غاية السهولة ، إذ كما أنّ المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره ، كذلك المولى الحقيقي ، لوضوح أنّ الفعل لوكان بمجرّد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري وغير مصحّح للمؤاخذة لم تصحّ مؤاخذة المولى العرفي أيضاً ، وإذا كان في حدّ ذاته قابلاً للمؤاخذة عليه فكون المؤاخذة ممّن انتهت إليه سلسلة الإرادة والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عمّا هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممّن خولف أمره ونهيه .
وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر ، وهو : أنّ الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتى يرد علينا إشكال الانتهاء إلى ما لا بالاختيار ، بل نقول بأنّ الفعل الناشىء عن هذا المقدار من الإختيار مادّة لصورة اُخرويّة ، والتعبير بالاستحقاق بملاحظة أنّ المادّة حيث كانت مستعدّة فهي مستحقّة لإفاضة الصورة من واهب الصور . ومنه تعرف أنّ نسبة التعذيب والإدخال في النار إليه تعالى بملاحظة أن إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطّلع على الافئدة منه تعالى بتوسّط ملائكة العذاب ، فلا ينافي القول باللّزوم ، مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي .
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من الأجوبة :
أمّا الأوّل : فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأول حرفاً بحرف فلا نعيد . وأمّا الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جداً ، لما سبق من أنّ الآيات والروايات قد نصّتا على خلاف ذلك ، وأمّا قوله تعالى : (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)([11]) فلا يكون مشعراً بذلك فضلاً عن الدلالة ; ضرورة أنّ مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة منهم في الخارج ، وأمّا كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلّف عنها فلا يدلّ عليه بوجه أصلاً .
وأمّا قوله (عليه السلام) : «إنّما هي أعمالكم تردّ اليكم» ، فظاهر في تجسّم الأعمال ، ولا يدلّ على أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي ، بداهة أنّه لا تنافي بين الالتزام بتجسّم الأعمال في الآخرة وكونه بيد الله تعالى وتحت اختياره .
وأمّا الثاني : فيرد عليه ما تقدّم في ضمن البحوث السابقة من أنّ مجرّد كون الفعل مسبوقاً بالإرادة لا يصحّح مناط اختياريّته رغم أنّ الإرادة بكافّة مباديها غير اختياريّة من ناحية ، وكونها علّة تامّة من ناحية اُخرى ومنتهية ]إلى[ الإرادة الأزليّة من ناحية ثالثة ، بداهة أنّ الفعل ـ والحال هذه ـ كيف يعقل كونه اختياريّاً ؟ ! وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار ، فإذن هذا الجواب لا يجدي في دفع المحذور المزبور .
وأمّا الثالث : فهو مبتن على تجسّم الأعمال ، وهو وإن كان غير بعيد نظراً إلى ما يظهر من بعض الآيات والروايات إلاّ أنّ مردّه ليس إلى أنّ تلك الأعمال مادّة لصورة اُخروية مفاضة من واهب الصور على شكل اللّزوم بحيث يستحيل تخلّفها عنها ، بداهة أنّ التجسّم بهذا المعنى مخالف صريح للكتاب والسنّة، حيث إنّهما قد نصّا على أنّ العقاب بيده تعالى ، وله أن يعاقب وله أن يعفو .
وعلى الجملة ، فالمجيب بهذا الجواب وإن كان يدفع مسألة قبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار حيث إنّ العقاب على أساس ذلك صورة اُخرويّة للأعمال الخارجيّة اللاّزمة لها الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتّصف بالقبح ، إلاّ أنّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب . وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف أنّ الالتزام باستحقاق العقاب من معاقب خارجي وحسنه لا يمكن إلاّ على ضوء نظريتي الإمامية والمعتزلة . وأمّا على ضوء نظريتي الأشاعرة والفلاسفة فلا يمكن حلّ هذه المشكلة إلاّ بوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرايع([12]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تقدّم شطر من الكلام عن الحديث المزبور فراجع .
[2] أقول : والشاهد على ذلك ما ورد في دعاء ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك بعد جُمَل منه : «و إن كنتُ من الأشقياء فامحُني من الاشقياء ، واكتبني من السعداء» إلى آخره ، وغير ذلك ممّا يكون بهذا المضمون الذي وصل بحدّ التظافر بل التواتر ولا يمكن إنكاره . الهداية 1 : 215 ، الهامش .
[3] الهداية 1 : 215 .
[4] دراسات في علم الاُصول 1 : 172 ـ 173 .
[5] الهداية في الاُصول 1 : 215 ـ 216 .
[6] المنّ عبارة عن وزنة يوزن بها بما يعادل ثلاثة كيلو غرامات تقريباً .
[7] الوزنة هنا مقدار معروف عند أهل العراق يعادل بضعة كيلوغرامات .
[8] دراسات في علم الاُصول 1 : 171 ـ172 . وفي هامش المحاضرات 2 : 108 ـ 114 بحث مفصّل لحديث السعادة والشقاوة وتوجيه ذاتيتهما لا بأس بالاشارة إليه ضمن النقاط التالية :
1 ـ أنّ السعادة والشقاوة ليستا جنسين للإنسان ولا فصلين له ، وإلاّ لكانت حقيقة الإنسان السعيد مباينة لحقيقة الإنسان الشقي ، وهو كما ترى .
2 ـ أن الشقاوة والسعادة لو كانتا ]علّة تامّة[ لزم هدم أساس كافة الشرائع والأديان ، وأصبح كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً محضاً .
]وأيضاً[ لزم هدم أساس التحسين والتقبيح العقليين .
3 ـ أنّ الوجدان حاكم بالاختيار وأنّه ليس في كمون ذات الإنسان ما يجبره على اختيار الكفر والعصيان مرّة ، واختيار الايمان والإطاعة مرّة اُخرى ... حيث إنّنا نرى شخصاً كان شقيّاً في أوّل عمره وصار سعيداً في آخره أو بالعكس ، فلو كانت السعادة والشقاوة ذاتيتين فكيف يعقل تغييرهما ; لإستحالة تغيير الذاتي وانقلابه .
]مضافاً إلى دلالة[ الآيات الكريمة على نظرية الاختيار ... وأنّ الأعمال الصادرة عن الإنسان تصدر بالإختيار لا بالقهر والجبر .
]وإلى[ الروايات المتواترة ]الدالّة[ على خطأ نظريتي الجبر والتفويض ...
4 ـ ]إنّهما[ لو كانتا ذاتيتين لكان الأمر بالدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى وحسن العاقبة وأن يجعل تعالى الشقي سعيداً لغواً محضاً ... بداهة استحالة انقلاب الذاتي .
5 ـ أنّ العلم الأزلي ]بكون الشقي شقياً والسعيد سعيداً[ لا يكون سبباً للجبر ومنشأً له ]مضافاً إلى ما في بعض الروايات الصحيحة الدالّة[ على أنّ الشقاوة والسعادة صفتان عارضتان على الإنسان بمزاولة الأعمال الخارجية كسائر الملكات الطيّبة والخبيثة التي تحصل لنفس الإنسان من مزاولة الأعمال الحسنة والسيئة ، وليستا من الصفات الذاتية اللاّزمة لذاته منذ وجوده في هذا الكون أو انعقاده في الرحم .
6 ـ أنّ العقاب لا يعقل أن يكون من لوازم تلك الصفة على نحو العلّة التامّة بل هو من معاقب خارجي